“مجتمعنا بين الحداثة وما بعد الحداثة” كتاب للعلامة الدكتور مروان المحاسني صدر بعد رحيله عن الهيئة العامة السورية للكتاب، متضمناً العديد من الأبحاث التي تشرح فيها معنى الحداثة وتشدد على أهمية الحضارة العربية وما تمتلكه من مقومات تدعونا للفخر والاعتزاز بها والمحافظة عليها.
الكتاب الذي تميز مؤلفه الراحل الدكتور المحاسني بفكر تحليلي عميق جاء في مقدمته: “قديماً كان الإشعاع الحضاري ينبع من المشرق العربي ومن الأندلس في مختلف الميادين العلمية، حيث كانت المجتمعات الغربية مبهورة بهذا الإشعاع وتقتبس منه الكثير باستمرار ثم بدأ ذلك الإشعاع يخبو”، مضيفاً إن المجتمعات الغربية واصلت نشاطها الحضاري، وذلك برعاية العلم والعلماء لأن ثمرة هذه الرعاية هي التقدم التقاني “التكنولوجي” الذي أدى إلى انبهار الشعوب العربية وغيرها به.
والمقصود بالحداثة حسب الكتاب هو جملة التغيرات والتطورات التي برزت خلال المئة سنة المنصرمة، وذلك في مجالات مختلفة من حياة الشعوب العربية ومنها انتشار التعليم وتطور وسائط النقل والانتقال وتطور وسائل الإعلام وظهور الكثير من المخترعات التي سهلت الحياة اليومية والتقدم المذهل في وسائل الاتصال بين الناس بفضل الهواتف الذكية، حيث بين أن المجتمعات العربية تعرضت للأمور الجديدة كلها، ومن الطبيعي أن تظهر فيها تيارات متضاربة فهناك من يقبل على العلم الجديد متناسياً أساس منطلقاته وهناك من يتحرر من العولمة رافعاً لواء الحفاظ على التراث.
ورؤية المحاسني كما أوردها في كتابه انطلقت من أن ظاهرة العولمة المعلنة هي عولمة الحضارة لكن مضمونها الحقيقي هو إذابة هوية الشعوب والانتماء القومي، وذلك باحتلال اللغة الأم ومن ثم احتلال الوعي بقيمتها وإيهام الشعوب بعدم قدرتها على استيعاب العلوم الحديثة ومصطلحاتها، وبذلك يصبح توطين العلوم والتكنولوجيا في بلادنا حلماً شبه مستحيل وبدونه نبقى مستوردين للتقانة الغربية وفي النهاية تمحى هوية الشعوب.
وتابع الكتاب: إن بعض شبابنا ينظر إلى التراث على أنه مجموعة من الكتب القديمة التي ما زال بعضها مخطوطاً وهي تضم مؤلفات الأوائل في مجالات اللغة والحديث والفتاوى، وقد كان بعضها يضم في طياته أبحاثاً في علوم مختلفة كالكيمياء والفلك والطب وجميعها قد تجاوزها الزمن.
وأكد المحاسني في كتابه أنه لا بد من القول بأن هذه الأبحاث العلمية كانت قد أصبحت فيما بعد أسساً لانطلاقة البحث العلمي الأوروبي الذي انتهى في أيامنا إلى علم متطور خلاق بفعل دأب الحضارة الغربية على صب مجهوداتها في سبر أغوار ذلك التراث والتدقيق في معطياته، ولا سيما أنها اعتمدت على المؤلفات العربية وثابرت على تطوير محتواها حتى وصلت إلى العلوم التجريبية العصرية والتي تفتحت عنها تلك الكشوف الباهرة في معرفة العناصر المكونة لعالمنا وتلك الأساليب التي تمكن الإنسان من التحكم في الكثير من أمور عالمه.
ووفق الكتاب، فثقافة الانفتاح والتغيير لا يجوز لها أن تتعارض مع مقومات ذاتيتنا الثقافية، وفي طليعتها لغتنا التي هي عنوان أصالتنا وإن ابتعادنا عن لغتنا هو قطع لجذورنا واقتلاع لمجتمعنا وانسياق في ركب الاغتراب والاضمحلال، مرحباً بالحداثة الخادمة لطموحاتنا في إيجاد مجتمع عصري متمكن من ذاتيته المبنية على تراثه الأصيل، وهي مفتاح لفهم العالم سريع التطور ومرقاة لاستثمار طاقاتنا في المشاركة لبناء عالم الغد.
وحسب العلامة المحاسني، فإن العقلية العربية الحديثة التي نريد لها أن تهدف إلى استعادة الموقع المرموق الذي ننشده في بناء المستقبل لا بد لها من أن تسلك طريق المشاركة في المجهودات العلمية والحضارية العالمية، معتمدة قواعدها المتينة في تلك الثقافة التي نعيشها وتسكن وجداننا وهي المنبت لكل السجايا المبذولة في مجتمعنا.
وكان يرى العلامة الراحل أننا لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن الثقافة العربية كائن اجتماعي احتفظ بهويته المتفردة في الأمة العربية على مر العصور، لذا فإن ثقتنا بصلابة مجتمعنا هي أساس نظرتنا إلى المستقبل فهو المجتمع الذي تخطى هجمات عديدة في الماضي وما زالت منطلقاته الثقافية والحضارية صامدة برغم وجود ما يشوبها من ممارسات يومية عند بعض الأفراد، لافتاً إلى ضرورة أن نبقى متسلحين بقيمنا وثوابتنا في أي مواجهة مع الثقافات الأخرى عن طريق حوار مفتوح لا يمكن إلا أن يزيدنا تمسكاً بأصالتنا.
وحسب الدراسة، يؤمن المحاسني بأن لحضارتنا من العمق الثقافي الإنساني ما يسمح لها باستخلاص العناصر والتوجهات التي تبذلها عالمية الحداثة لتدخل في مسار الارتقاء والإبداع دون أن تخضع لأغراض العولمة المعروفة باحتكاراتها، وبذلك تتجنب الوقوع في مطباتها الجاهزة.
يشار إلى أن العلامة الدكتور مروان المحاسني كان رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، ورحل عن عالمنا في شهر آذار عام 2022 بعد مسيرة علمية حافلة بالفكر والمعرفة عن عمر 96 عاماً قضاها في خدمة اللغة العربية.