على الجانب الغربي لنهر الفرات عند منعطفه الكبير نحو الشرق وعلى مسافة 90كم جنوب شرق حلب يتربع موقع أثري تاريخي من العصر البرونزي يعود لسنة 2400 ق.م ...إنه موقع إيمار أو مملكة إيمار والتي تعرف باسم مدينة مسكنة شرقي حلب والتي شكل موقعها حلقة وصل تجارية بين الهلال الخصيب عبر تدمر وتوسعت تجارتها حتى الأناضول.
وقد تم اكتشافها عام 1972 ضمن حملة الإنقاذ الدولية لحوض الفرات من قبل البعثة الفرنسية للدراسات العربية في دمشق.
ورد ذكر إيمار في النصوص القديمة التي تعود إلى الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، وفي العصر البيزنطي حملت اسم «بارباليسوس» ثم اختُصر الاسم في العصور الإسلامية ليصير «بالس».
وبحسب الاكتشافات الأثرية فإن مدينة إيمار موجودة منذ بداية النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد وذلك منذ اكتشاف وثائق إيبلا عام 1975.
والجدير بالذكر وجود وثائق تشير إلى بعض المبادلات التجارية مرسلة من إيبلا إلى ملوك إيمار مثل أنزيدمو الذي كان معاصرا لملك إيبلا والملكة ريتشالم أيضا مما يدل على وجود علاقات قديمة بين إيبلا وإيمار.
في تاريخ مدينة إيمار
كانت إيمار مملكة صغيرة تضم ميناءً تجارياً مهماً يعد عقدة مواصلات تربط بلاد الرافدين بالممالك التي تقع إلى الغرب منها عن طريق الفرات أو الطريق البري وكانت السفن تفرغ حمولتها في هذا الميناء، ثم تنقل البضائع على الحمير أو الثيران إلى حلب عاصمة مملكة يمحاض أو إلى قطنة (المشرفة) على الطريق الصحراوي، وعلى العكس كانت البضائع تُنقل من حلب وقطنة إلى إيمار بالأسلوب نفسه. وكانت إيمار على علاقة طيبة مع إيبلا في نهاية الألف الثالث ق.م ونافستها عليها ماري في بعض الأحيان.
تبعت إيمار مملكة يمحاض في مطلع الألف الثاني ق.م، إذ كانت الميناء الرئيس لتلك المملكة على الفرات. وعندما سقطت حلب بيد الحيثيين كان حظ إيمار كحظ سيدتها يمحاض إذ صارت تابعة للمملكة الحثية في مطلع النصف الثاني من الألف الثاني. وبقي للمدينة موقعها التجاري ميناءً على الفرات إلى أن داهمتها شعوب البحر فدمرتها نحو عام 1187ق.م، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك إلا في العصر الروماني ـ البيزنطي حيث قامت فوق الأنقاض الشرقية للمدينة القديمة (إيمار) مدينة بارباليسوس ثم في العصر الإسلامي مدينة بالس.
البناء المعماري لمدينة إيمار
يتميز بناء المدينة أنه على شكل مدرجات. كما احتوت على شبكة شوارع منتظمة ومتعامدة، ويذكر أنه تمت أعمال بناء في المدينة خلال السيطرة الحيثية في عهد الملك الحيثي مورشيلي الثاني (1338- 1290 ق.م) حيث حوت المدينة على حصن عسكري حيثي، وقد تم حفر خندق بعمق 15م وبعرض 30م يحيط بالمدينة من جهة وهي محاطة بمنحدر صخري طبيعي من الجهات الثلاث الباقية.
كما تم الكشف عن معبدين وقصر من طراز (بيت حيلاني) على الأكربول، وقد كانت جدران أحد المعبدين مزينة بالآجر المعروف في منطقة نوزي (تكريت حاليا)، أما بيوت السكن فقد كانت متشابهة التخطيط، حيث احتوت على ثلاث غرف سفلية ودرج يؤدي إلى طابق ثانٍ على الأرجح.
التنقيبات الأثرية في إيمار واكتشافاتها
كانت التنقيبات الأثرية في إيمار إنقاذية وسريعة حيث اكتشف 1500 رقيم من قبل البعثة الفرنسية خلال عامي 1972-1976 وقد دونت عليها نصوص بالكتابة المسمارية وبلغات متنوعة كالسومرية والأكادية والحورية والحيثية.
ويعود تاريخ غالبية هذه الرقم إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، كون المدينة كانت قد خضعت للاحتلال الحيثي في بعض الفترات. وهي تعاصر بذلك المكتشفات الكتابية المسمارية في أوغاريت.
وللأسف تم تهريب العديد من لوحات إيمار من قبل تجار الآثار دون إذن شرعي خارج سورية وقد تم التعرف على قسم منها حسب ما نشرته بعض الدوريات والمجلات العلمية فقسم منها في أميركا وإسبانيا وألمانيا واليابان وفلسطين.
أما موضوعات اللوحات والنصوص المسمارية المكتشفة في إيمار فتدور حول:
1 ـ المحفوظات الدينية
بالنسبة للمحفوظات الدينية تشكل النصوص والتي تضم أكثر من أربعمئة لوحة أكادية حدثا مهما في حفظ وتقديم المعلومات الكثيرة عن المعتقدات الدينية في سورية كما تشكل أرشيفاً متكاملاً أضيف على أرشيف مملكة أوغاريت خلال النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد.
وقد تمحورت موضوعاتها حول الهبات، والنذور، والأضاحي، والشعائر الدينية، والأعياد، وأسماء الآلهة المعبودة وصفاتها، وعن دور الكهنة في المجتمع ومراتبهم وعلاقاتهم مع الأسرة الحاكمة وعامة الشعب.
2 ـ المحفوظات السياسية
تفيد الوثائق التاريخية أن السلطة في حكومة إيمار لم تكن بيد الملك، بل إن السلطة كانت محدودة ومقيدة ومرتبطة بقرارات يصدرها مجلس الأعيان والشيوخ، وثمة سلطة أكثر قوة في إيمار، هي سلطة المعبد ورجال الدين، الذين كانوا يسيطرون على أوقاف واسعة، ويشرفون على فعاليات اقتصادية مهمة، ويتبع لهم عدد كبير من الموظفين والإداريين.
أما السلطة الفعلية والقرارات المهمة فكانت بيد ملوك كركميش، الذين يرجع إليهم حكام إيمار في كل أمر مهم، وخاصة ما يتعلق بالسياسة الخارجية.
ومن أهم ملوكها:
1-ياصي داجان الذي انحدرت منه السلالة الملكية.
2 ـ بعل كبر.
3 ـ ذوعشتا روتي.
4 ـ بيلسوداجان.
5 ـ إيللي.
3-المحفوظات الإدارية والاقتصادية
4ـ المحفوظات المعجمية.
5 ـ المحفوظات الأدبية.
6ـ محفوظات نصوص التعويذات.
7 ـ محفوظات الرسائل والوصايا.
وفي حديثنا عن المنحوتات الأثرية التي اكتشفت في إيمار فهي منحوتات فنية تمثل نساء وطيورا وأشكالا هندسية تظهر أهمية التصوير النحتي السوري الحثي بالإضافة إلى تماثيل برونزية موجودة داخل معبد إله العاصفة وتتميز بأنها بلا أذرع ومنها تماثيل إنسانية وحيوانية كتمثال الثور.
كما تم العثور على صناديق فخارية ومجموعة من البيوت الطينية والمجسمات الطينية التي تتخذ شكل أبراج وقد أثارت اهتمام الباحثين كونها تشكل نموذجا فنيا معماريا مدهشا.
إلى جانب التماثيل عثر أيضاً على كسر فخارية متنوعة دلت على وجود أوانٍ وصحون وأطباق وجرار وأوعية مثل الأقداح والمطرات.
وأخيرا تؤكد لنا محفوظات إيبلا في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد ونصوص ماري في القرن السابع عشر قبل الميلاد أن مدينة إيمار كان لها شأن عظيم في هاتين الفترتين حيث قام الملك الحيثي شوبيلوما أثناء سيطرته على شمال سورية ومن بعده ابنه مورشيلي الثاني بإعادة بناء المدينة المهدمة على حافة ضفة نهر الفرات، وذلك في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
وإن كان هناك احتمال آخر بأنها غرقت تحت مياه البحيرة. الأمر الذي دفع سكان المملكة لتشييد مدينة إيمار الجديدة على الضفة الجنوبية المنحدرة باتجاه الوادي فوق هضبة تحيط بها الوديان، مما أكسبها موقعاً جغرافياً استراتيجياً مهماً. وقد دامت تلك المدينة حوالي قرن ونصف القرن، فكانت مثالاً على قوة الخلق الحضاري التي ازدهرت في عصر البرونز الحديث، وأظهرت أهمية هذه المنطقة في سورية بالنسبة للعلاقات الدولية.
رزان محمد