شارك
|

عن دوريس التي لم تعرف عشقاً كعشق حلب

تاريخ النشر : 2016-10-26

تختصرُ قصة سيدةٍ ألمانية متزوجة من رجل سوري وتقيم في حلب، مأساة مدينةٍ هي نموذج لمثيلاتها في سوريا، وتأخذُك إلى حيث تتجلى الجريمة المرتكبة بأقدم مدن في التاريخ، عبر تحويلها إلى أكوام من الرُكام الذي تفوح منه رائحة الموت يومياً.

 

هي دوريس شرودر (74 عاماً)، انتقلت نهائياً الى حلب في العام 1970، فسكنتها الى حدّ التوحد مع هذه المدينة التي أنبتت في داخلها عشقاً صار يكبر مع الأيام.

 

لم تقو شرودر على الانسلاخ عن «الشهباء». برغم ضراوة المعارك، ظلت أكثر من سنتين في سجن إرادي في منزلها حتى لا ترى ما آلت إليه حالُ مدينتها جرّاء الموت والدمار. وكلما كانت تُسأل عن حالها وما ينقصها من قبل جيرانها ومعارفها، كان جوابها لهم: «نحن بخير ما دامت هناك قطعة خبز تؤكل ونقطة مياه صالحة للشرب».

 

كثرت محاولات إقناعها بمغادرة حلب بعدما تقطّعت سبل العيش في المدينة، لكنها كانت تُصرّ على الرفض، إلى أن كُسر قلبها بمرض عضال أصاب ابنتها. عندها، أُرغمت على المغادرة لأن علاج ابنتها لم يعد متوفراً في حلب، وقطعت على نفسها وعداً تكرره يومياً: «عندما تتوقف الحرب سأعود فوراً، بعد حلب الجميلة لا مدينة أجمل منها في العالم».

 

مع انتقال دوريس إلى ألمانيا، رفضت زيارة أي من أقاربها، لا سيما شقيقتها التي تقيم في مدينة أخرى «حتى لا أتعلق بشقيقتي ويصعب علي قرار العودة إلى سوريا».

 

عندما تروي هذه السيدة يومياتها الحلبية قبل الحرب، يلمعُ الفرح في عينيها. تقول: «كنت أذهب كل يوم إلى السوق لشراء خيطان الصوف، وأعود سيراً على الأقدام حتى أتمتع بروعة البلد». لا تخفي حُبّها لبشار الأسد. شاهدته قبل الحرب، وهو يقود سيارته في حلب ويتوقف عند إحدى إشارات المرور: «يومها لم أتمالك نفسي عندما صرخت به وقلت له بصوت عالٍ أحبك».

 

عن الحرب وأحوالها، تروي قصص المياه وطوابير المنتظرين. الخبز، وكيف كانت تعمد الى تجفيفه في الشمس وادخاره الى أيام الشحّ. «عشنا أياماً طويلة كنا نأكل فقط البرغل». العيش في حلب كان معاناة حقيقية والأهم أنه لم يكن يشعرها بالإحباط، بعكس ما حصل معها عند اقتراب موعد مغادرتها المدينة. عندها توعكت صحياً، وصارت تطلب الرأفة بحالتها وإبقاءها في حلب، قبل أن تعمد إلى توزيع أغراضها على الناس المحتاجين، مشيرةً بكثير من الأسى إلى أن «هذه الأغراض هي تاريخي الحلو في هذا البلد. كيف لي أن أترك تاريخي وأمشي؟».

 

أما المشهد الأصعب، فكان يوم وصلت السيارة إلى باب منزلها لتقلّها إلى المطار. أغمي عليها، وبعدما تمَّ إنعاشها، قالت «أصعد إلى السيارة بشرط إعطائي منديلاً أغطي به وجهي وعينيّ، فأنا لا أريد أن أرى حلب مجروحة، أريدها أن تبقى في ذاكرتي حلوة وزينة الدنيا كما كانت طوال عمرها». كانت ترفض أن يتحدث أي من أقربائها ومعارفها عما يحصل خارج حيطان منزلها، وإذا صودف أن أحد الضيوف تكلّم بالموضوع، تعمد الى حبس نفسها في المطبخ حتى لا تسمع كلامه».

 

في بداية الحرب السورية، اتصلت السفارة الالمانية بشرودر لإجلائها مع الرعايا الآخرين، لكنها صرخت بالمتصل وأقفلت الهاتف بوجهه. ظلّت ثلاث سنوات من دون جواز سفر ومن دون إقامة، فقط لأنها رفضت الذهاب إلى السفارة. حذفت كل القنوات الألمانية عن شاشة تلفازها «لأنهم كانوا يشتمون سوريا في نشرات الأخبار».

 

قصة السيدة الألمانية دوريس شرودر تطول، لكن عشقها لحلب لن يرتوي، إلا عندما تعود إليها لترقد بسلام.. وإلى الأبد.

 

داود رمال. السفير


عدد القراءات: 13551

اخر الأخبار