شقيقة بغداد اللدودة، ومصيدة بيروت، حسد القاهرة، وحلم عمان، ضمير مكة، غيرة قرطبة، مقلة القدس، مغناج المدن وعكاز تاريخ لخليفة هرم.
إنها دمشق، امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء وعشرة ألقاب، مثوى ألف ولي، ومدرسة عشرين نبياً، وفكرة خمسة عشر إلهاً خرافياً لحضارات شنقت نفسها على أبوابها.
إنها دمشق الأقدم والأيتم، ملتقى الحلم ونهايته، بداية الفتح وقوافله، شرود القصيدة ومصيدة الشعراء.
من على شرفتها أطل هشام ليغازل غيمة أموية عابرة، (أنى تهطلي خيرك لي) بعد أن فرغ من إرواء غوطتها بالدم، ومنها طار صقر قريش حالماً، ليدفن تحت بلاطه في جبال البرينيه.
إنها دمشق التي تحملت الجميع، متقاعسين وحالمين، صغار كسبة وثوريين، عابرين ومقيمين، مدمني عضها، مقلمي أظفارها وخائبين وملوثين، طهرانيين وشهوانيين...
رضعت حتى جف بردى، فسارعت بدمها، بشجرها وظلالها، ولما نفقت الغوطة، أسلمت قاسيونها (شامتها الأثيرة) يلعقونه، يتسلقونه، يطلون منه على جسدها، ويدعون كل السفلة ليأخذوا حصتهم من براءتها، حتى باتت هذه مهنة من يحبها ومن لا يقوى على ذلك. لكنها دمشق تعود فتية كلما شرق نقي عظامها.
إنها دمشق ايها العرب العاربة والمستعربة، قبلة سياحكم، ومحط مطيكم، تمنح لقب الشيخ لكل من لبس صندلا واعتمر دشداشة، ولا تعترف إلا بشيخها محي الدين بن عربي. هو من لم تتسع له الأرض، حضنته دمشق تحت ثديها وألبسته حياً من أحيائها، فغنى لها «كل ما لا يؤنث لا يعول عليه».
إنها دمشق لا تعبأ باثنين: الجلادين والضحايا، تؤرشفهم وتعيدهم بعد لأي على شكل منمنمات تزين بها جدرانها أو أخباراً في صفحات كتبها، فيتململ ابن عساكر قليلاً يغسل يديه ويتوضأ لوجه الله ويشرع بتغطيس الريشة في المحبرة، لا ليكتب بل ليمرر الحبر على حروف دمشق المنجمة في كتابها. دمشق التي تتقن كل اللغات ولا أحد يفهم عليها إلا الله جل شأنه وملائكة عرشه.
دمر هولاكو بغداد وصار مسلما في دمشق. حرر صلاح الدين القدس وطاب موتاً في دمشق. قدم لها الحسين ابن علي ويوحنا المعمدان وجعفر البرمكي رؤوسهم كي ترضى دمشق. وما بين قبر زينب وقبر يزيد خمسة فراسخ ودفلى على طريقة دمشق. إنها دمشق لا تحب أحداً، ولا تعبأ بكارهيها، متغاوية ووقحة. تركت عشاقها خارجا بقسوة نادرة كي لا ينسفح كثير من دمهم، وتتفرغ للغرباء الذين ظنوا أنفسهم أسيادها ليستفيقوا فجأة وإذ بهم عالقون تحت أظافرها.
لديها من الغبار ما يكفي لتقص أثر من سرقها فتحيله متذرذراً على جسدها.
لديها من العشاق ما يكفي حبر العالم، ومن الأزرق ما يكفي لتغرق القارات الخمس.
لديها من المآذن ما يكفي ليتنفس ملحدوها عبق الملائكة، ومن المداخن ما يكفي «لتشحير» وجه الكون.
ولديها من الوقت ما يكفي لترتب قبلة مع مذنب عابر، ومن الشهوة ما يدعو نحل الكون لرحيقها.
لديها من الصبر ما يكفي لتنتشي بهزة أرضية، ومن الأحذية و«الشحاحيط» المعلقة في سوق الحميدية ما يكفي للاحتفال بخمسين دكتاتوراً.
لديها من الحبال ما يكفي لنشر الغسيل الوسخ للعالم أجمع، ومن الشرفات ما يكفي سكان آسيا ليحتسوا قهوتهم ويدخنوا سجائرهم على مهل.
لديها من القبل ما يكفي كل حرمان المجذومين، ومن الصراخ ما يكفي ضحايا نكازاكي وهيروشيما.
لديها من النهايات ما يكفي ثمانين ألف رواية، ومن الأجنة ما يكفي لتشغيل الحروب القادمة.
لديها شعراء بعدد شرطة السير، وقصائد بعدد مخالفات التموين، ونساء بكل ألوان الطيف وما فوق وتحت البنفسجي والأحمر.
لا فضول لدمشق، لا تريد أن تعرف ولا أن تسرع الخطى. ثابتة على هيئة لغز الكل يلهث، يرمح، يسبح، وهي تنتظرهم هناك إلى حيث سيصلون.
دمشق هي العاصمة الوحيدة في العالم التي لا تقبل القسمة على اثنين. في أرقى أحيائها تسمع وجع «الطبالة»، وفي ظلمة «حجرها الأسود» يتسلق كشاشو الحمام كتف قاسيون ليصطادوا حمامة شاردة من «المهاجرين».
دمشق لا تقسم إلى محورين. فليست كبيروت غربية وشرقية، ولا كما القاهرة أهلي وزملكاوي ولا كما باريس ديغول وفيشي، ولا هي مثل لندن شرق وغرب نهر التايمز، ولا كمدن الخليج العربي مواطنين ووافدين، ولن تكون كعمان فدائيين وأردنيين، ولا كبغداد منطقة خضراء واخرى بلون الدم...
دمشق مكان واحد، فإذا طرقت باب توما ستنفتح نافذة لك من باب الجابية، وإذا أقفل باب مصلى فلديك مفاتيح باب السريجة، وإن أضعت طريق الجامع الأموي، فستدلك عليه «كنيسة السيدة».
لا تتعب نفسك مع دمشق ولا تحتار، فهي تسخر من كل من يدعي أنه يحميها ومن يهدد بترويضها، فتود أن تعانقها أو تهرب منها، تلتقط لها صورة أو تحمضها كلها، تود أن تدخلها فاتحاً أو سائحاً، مدافعا أو ضحية، ماحياً أو متذكراً كل شيء دفعة واحدة.
فتخرج سيجارة «حمرا» طويلة تشعلها بخمسة أعواد كبريت ماركة «الفرس»، وتقول جملة واحدة للجميع: إنها دمشق.