الناس حكايات تقف على أقدام، ما من وجه إلّا وخلف ملامحه حكاية، وما من حكاية من تلك الحكايات الرائحة والغادية في الأمكنة، إلّا لها رنينها الخاص والفريد، فالسوريون الذين يعبرون الحياة بأقسى ضروبها اليوم، هم سادة هذه الحكايات باختلافهم وفرادتهم التي لا تنضب، حتى والحرب تكشف عن اغراءاتها القاتلة، وتبدي عهر مفاتنها لنفوسهم المكسورة الخاطر، شهير عباس “35 – عاماً – الصورة- الرجل الذي يقف صدره بينه وبين حكاية سورية موجعة، لكنها ذات عبرة إنسانية مميزة، فأبو علي الذي يقوم ببيع الخضار والفواكه الموسمية في سوق المزة للخضار، يبدو كرجل في حقل ذرة، سارح بين ثنايا سهل بعيد، بعد أن حوّل المكان الذي يقف فيه إلى بستان ألفة فيه حكاية صغيرة.
“أنا أبو علي من جبلة – عين الشرقية، وعمري 35 عاماً” قال أبو علي: بينما السنون التي غزت ملامحه تركت آثاراً لسنين تبديه أكبر على الأقل بعشر سنوات، وكيف لا يبدو كذلك، والرجل فقد زوجته وأم أولاده في واحدة من التفجيرات التي ضربت العاصمة “ مصيبتي مثل مصيبة أي سوري، ما منا إلّا فقد عزيزاً وحبيباً ، وما منا إلّا من ذاق الألم، والتاع بنار الحرب الكاوية، وزوجتي التي تركتني في منتصف المشوار، جعلت الأمور أصعب علي جداً”، يحكي أبو علي بلطف كبير متأثراً بما تركته في روحه من مودة وخجل أنيق، قريته البعيدة، “ كان من الصعب عليّ العودة إلى القرية التي لا تتوفر فيها فرص العمل إلّا نادراً وفي الزراعة، إلّا أن تأمين الماء لقرية مرتفعة كقريتي “بترياس” يجعل الاشتغال بالزراعة صعباً إلّا على من يمتلك الآبار والخزانات الكبيرة”، وبترياس من قرى الساحل السوري التي تشتهر بزراعة التبغ “ دخان بترياس العربي من أطيب أنواع الدخان في العالم”، قال أبو علي، وتابع: “ لكنه يحتاج للماء وهو كما قلت غير متوفر”. في الحديث الذي دار مع أبي علي، اضطر الرجل لقطعه مراراً للحديث مع بضعة سيدات عابرات للمكان، يسألنه عن سعر فليفلة “المكدوس”، فالسيدات المتذمرات من السعر العالي جداً برأيهن “350 ليرة لكيلو الفليفلة الحمراء” لن يمنعهن من عدم الشراء. إحدى السيدات أخبرتنا عن الفرق الكبير بين أسعار مواد “المكدوس” هذا العام مقارنة بالعام الذي سبقه، لكن أبا علي يخبرهن بكثير من الهدوء، عن كون ارتفاع الأسعار ليس هو المسؤول عنه، فهو يشتري من سوق الهال بضاعته، وهناك تحدث القصص العجائبية “ كل تاجر يبيعك على كيفه، ومن المستحيل أن يعطيك تاجر الجملة فاتورة رسمية لأسعار الخضار، ويأتي التموين، ويحاسبنا نحن، يا أخي حاسبوا الحيتان”.
أبو علي من أصحاب الأصوات الجميلة، والغناء الموهبة التي رافقته منذ صباه، لكنه لم يسعَ يومياً لأن تصبح عملاً، فهو مقتنع أن الغناء هو لرفع المزاج والحالة النفسية والشعورية الإنسانية العالية، وما يراه من فن غنائي اليوم، هو محبط مقارنة مع ما تربى عليه، “ العتابا الساحلية هي من أجمل، وأتم ما خرج من الغناء، وفؤاد غازي هو من أهم من غنّى هذا اللون”.
تزوج أبو علي مرة أخرى، وهو يتابع عمله الذي يكفيه أجار بيت ومصروف طعام دون أي ترف، ولو برحلة شهرية لمطعم هو والأسرة، لكن الروح تبدي مالها من العيون الشاردة، والصوت يخبر عن الحال “ قمر يا اللي أنت عالي فوق بسماك/ متل بسم القمر يا ولف بسماك، يا الله يلي تنادي الناس باسمك ترجعلي وليفي من الغياب”، وصمت أبو علي!!.
تمّام علي بركات . البعث