شارك
|

الحلبيون وشغفهم بالكتب والمخطوطات... مرعي باشا الملاّح أنموذجاً

تاريخ النشر : 2015-09-04

اهتم الحلبيون منذ القديم باقتناء الكتب و المخطوطات النادرة، وبذلوا أموالاً طائلة في ابتياعها واستنساخها وتجليدها وحفظها في خزائن كتبهم..


واعتبرت حلب مركزاً مهماً للمخطوطات، إلى جانب كل من دمشق، وبغداد والقاهرة وتونس وسواها من حواضر دار الإسلام، وقد دعم هذه المكانة موقعها التاريخي وما لها من أهمية ثقافية وفكرية متميزة...


ومن أشهر خزائن الكتب الخاصة التي عرفتها المدينة في الربع الأول من القرن العشرين تلك التي جمعها مرعي باشا الملاّح (1853 ـ 1930) الذي كان من خيرة وجهاء حلب .


تلقى الملاح العلم عن ثلاثة من كبار علماء عصره، وهم: الشيخ أحمد الترمانيني، والشيخ محمد علي الكحيل، والشيخ حسين الأزهري. وتخرج في المعهد السلطاني العثماني في الآستانة، وأتقن عدة لغات، كما حمل شهادة في الحقوق بعد اجتيازه الامتحان المسلكي لدى نظارة العدلية، وتقلب في مناصب الدولة العثمانية حتى أصبح عضواً في مجلس المبعوثان (1908)، وولي حلب بالوكالة قبيل زوال العهد العثماني، كما تولى في العهد الفيصلي الرئاسة الثانية للمؤتمر السوري (1919)، وفي عهد الانتداب الفرنسي أسند إليه منصب حاكم دولة حلب (1924)، أخيراً سمي والياً على حلب (1925) بدرجة وزير على أثر إعلان (دولة سورية) من اندماج دولتي دمشق وحلب.


وفي جميع المناصب التي أسندت إليه حقق مشروعات عمرانية وإصلاحات إدارية واجتماعية، لا تزال مدينته حلب، تذكرها بالخير ومنها: تبرعه بإقامة مستوصف خيري في محلة جب القبة لمعاينة الفقراء مجاناً فسمي باسمه (مستوصف مرعي باشا الملاّح الخيري) ويشغله حالياً (مركز مكافحة السل والطبابة الشرعية)؛ وتنظيمه مقبرة العبارة الصغيرة وتحويلها إلى حديقة عامة عرفت باسمه أيضاً (حديقة مرعي باشا الملاّح )، ومن ثم تبدلت تسميتها وأضحت مقهى ومتنزهاً عرف باسم (المنشية) ثم مقصفاً ومتنزهاً تابعاً لاتحاد العمال إلى أن أزيلت في العام 2007 لبناء موقف طابقي ضخم للسيارات.


ومما امتاز به حبه للعلم والأدب وانصرافه إلى إحياء علوم الدين والإحسان إلى رجاله وإحياء معاهده؛ فولي النظارة على أوقاف جامع بانقوسا، وعمل على إحياء أوقاف محمد خاص بك الذي ينُسب إليه بناء ذلك الجامع في القرن الرابع عشر (ق8هـ)، والتي بقيت مهملة زمناً طويلاً كما أوقف الملاّح بعض أراضيه للإنفاق على إقامة الشعائر، والدروس الدينية في الجامع المذكور..


وكان له إلى ذلك شغف كبير باقتناء الكتب؛ فجمع في خزانة كتبه عدداً ضخماً من نوادر المخطوطات ونفائس المطبوعات العربية والتركية والفارسية والأوروبية التي حملها من البلدان التي زارها.


كان الملاّح من الرعيل الأول الذي اضطلع بدور أساسي في النهضة العلمية التي شهدتها البلاد في العصر الحديث؛ فكان له في هذا المجال مآثر تذكر وتشكر، ومنها إسهامه مع علامة الشهباء في عصره الشيخ محمد الزرقا في تأسيس الدراسات الإسلامية في حلب بإحياء المدرسة الخسروية.


وقد شهدت حلب إبان سنوات حمكه لها (1924 ـ 1926) نشاطاً علمياً وثقافياً كبيراً تجلى بافتتاح فرع للمجمع العلمي العربي الذي يتخذ دمشق مقراً له، وتأسيس كل من «دار الكتب الوطنية»، وهي المكتبة ذاتها التي تطورت بعد ذلك وظلت تنمو على مر الأيام حتى غدت المكتبة الوطنية الفخمة الشهيرة، و«جمعية أصدقاء قلعة حلب» برئاسة مؤرخ حلب الشهير الشيخ كامل الغزي، والتي أصبح اسمها فيما بعد «جمعية العاديات». وتعد «جمعية العاديات» أول جمعية أهلية تُعنى بالآثار في الوطن العربي وهي من مفاخر الشهباء حالياً إذ امتدت فروعها لكل محافظات الوطن للحفاظ على تراثه وآثاره.


كان الملاّح مستقبلي الرؤيا؛ فارتأى بثاقب نظره ضرورة إقامة كلية للهندسة بحلب ترفد «الجامعة السورية» التي تتخذ دمشق مقراً لها، وكانت تقتصر آنذاك على كل من كلية الطب (بفرعيها الطب البشري والصيدلية) والحقوق. وكان من المقرر أن يُتخذ قصر الناعورة (المتحف القديم) المدشن في عهده في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1924، والذي أزيل في العام 1959 ليقام في مكانه متحف حلب الوطني الحالي، مقراً للكلية تلك.


وسعى الملاّح إلى أن يتبنى صديقه الدكتور رضا بك سعيد الملقب بأبي الجامعة السورية وزير المعارف آنذاك هذا المشروع، وتكللت مساعيه بالنجاح حينما رصدت وزارة المعارف الاعتمادات المالية اللازمة في موازنتها السنوية للعام 1925 لإقامته.
ولكن الفريق حسن عزت باشا أرولات وزير الأشغال العامة ذو الأصول التركية الذي كانت تربطه علاقة مصاهرة بصبحي بك بركات رئيس الدولة السورية آنذاك عرقل هذا المشروع؛ إذ اعتبره أنه يدخل ضمن اختصاص وزارته، وهكذا نقلت مخصصات الكلية في موازنة المعارف إلى فصل آخر فيها، وهو ما فصلته صحيفة "المفيد" التي كانت تصدر في دمشق في تلك الفترة.


وهكذا، حرمت حلب ومنطقتها من هذا المشروع الحيوي الذي لم يكن تعليمياً فحسب، وإنما تنموياً أيضاً بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية.


وكان على حلب أن تنتظر مدة واحد وعشرين سنة أخرى لكي تشهد إحداث أول كلية للهندسة فيها في العام 1946 باعتبارها أول مؤسسة للتعليم العالي، وكانت حينها تتبع للجامعة السورية.


ومن حلب إلى درة الفرات دير الزور التابعة لدولة حلب آنذاك؛ فأنشأ أول مدرسة تجهيزية للطلاب وما زالت لليوم تحمل اسم «ثانوية الفرات».


بعد استقالته من الحكم قرر الملاّح الابتعاد نهائياً عن معترك الحياة السياسية مؤثراً الانقطاع إلى خدمة أمته وبلده في المجالات الثقافية والاجتماعية. وفي هذا الصدد فإنه بعدما أسهم في إحياء المدرسة الخسروية، ارتأى وسواه من أهل الحل والعقد في المدينة إقامة دار كتب تضم المخطوطات والمطبوعات المبثوثة في المعاهد الإسلامية عرفت آنئذ بـ «دار كتب الأوقاف الإسلامية» وذلك في العام 1926، ولقد أوقف عليها خزانة كتبه لتكون تحت تصرف أهل الفضل والباحثين.


لم يقتصر نشاط مرعي باشا الملاّح الثقافي ودعمه للمعاهد والمؤسسات العلمية على حلب وحدها بل وتعداها إلى دمشق أيضاً حيث كان من أبرز مؤازري المجمع العلمي العربي في طور تأسيسه، ومما أهداه إلى «دار الكتب الوطنية الظاهرية» التابعة للمجمع نسخة مخطوطة من «كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري» لابن العديم، ومما هو جدير بالذكر أن هذه النسخة التي أهداها الملاّح إلى المجمع كانت قد استعارتها لجنة إحياء آثار أبي العلاء في مصر ونشرتها ضمن كتاب «تعريف القدماء بأبي العلاء» باعتناء عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وذلك في العام 1944، وإشادة بفضله وتقديراً لدعمه هذه المؤسسة العلمية فقد أُدرج اسمه في «جريدة المتبرعين والمحسنين للمجمع العلمي» التي كانت تتصدر أعداد مجلة المجمع في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.


عدد القراءات: 12782

اخر الأخبار