في السابع عشر من نيسان، ذلك اليوم الذي شهد تطهير كامل التراب السوري من رجس الاستعمار الفرنسي، تنتعش ذاكرة السوريين وتشمخ هاماتهم، يعيدون تقليب صفحات المجد، يتباركون بتركة الأجداد العامرة بالعز والعنفوان، ينقلون شعلة النضال والمقاومة من جيل إلى جيل، من جيل سلطان باشا الأطرش والشيخ صالح العلي وإبراهيم هنانو ويوسف العظمة وحسن الخراط وغيرهم إلى جيلنا هذا، حيث يستكمل بواسل جيشنا دروب النضال، يقهرون الإرهاب ويصونون
إرث الأجداد من العزة والكرامة، يحصدون ثمرات القيم النضالية والوطنية ويجترحون انتصارات جديدةً تكرس عظمة هذا الوطن وتصون سيادته، يسجلون في كتاب المجد آخر فصول الانتصار على الإرهاب الأداة الجديدة لقوى الاستعمار القديمة.
اليوم يحيي السوريون الذكرى الثامنة والسبعين لجلاء المستعمر الفرنسي عن وطنهم، يستلهمون من أجدادهم معاني ودلالات عيد الجلاء وهم في أوج مرحلة التصدي للهجمة الشرسة لتلك القوى الاستعمارية المتكالبة على هذا الوطن وسيادته، مجددين العهد على تقديم التضحيات لصون الاستقلال ودحر الإرهاب وداعميه.
منذ أن وطئت أقدام المحتل الفرنسي أرض الوطن عام 1920 بدأ بنهب وتخريب خيراته وثرواته مستخدماً أبشع الأساليب وأكثرها وحشيةً، إلا أن ذلك لم يفلح في ثني عزيمة السوريين الذين قدموا الغالي والنفيس ليفوز وطنهم بالاستقلال والسيادة عام 1946.
وكما سجل التاريخ بطولات وتضحيات السوريين منذ عشرينيات القرن الماضي إلى أن نالوا استقلالهم وطردوا المستعمر الفرنسي، يواصل السوريون مسيرتهم في التصدي لموجات جديدة من الاستعمار في خندق جيشهم الوطني الجيش العربي السوري في حربه على الإرهاب من جهة، ويتصدون بعزيمة لا تلين لموجات متتالية من العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاستعمار الجديد مستهدفاً لقمة عيشهم من جهة ثانية، وهم كما أجدادهم عزائمهم لا تلين، متخذين من إصرارهم على طرد الإرهاب واستعادة الحياة ركيزةً لصمودهم وملهماً لعطائهم.
في ربيع العام 1946 نسج السوريون وحدتهم الوطنية في أبهى صورها على صفحات المجد، فامتدت بوسع جغرافيا الوطن وقد وأدوا بذور الفتنة التي حاول الاستعمار الفرنسي البغيض زرعها، متشبثين باستقلالهم الذي انتزعه أجدادهم بقيادة الشيخ صالح العلي وإبراهيم هنانو وحسن الخراط ومحمد العياش وغيرهم، وصولاً إلى الثورة السورية الكبرى عام 1925 التي قادها سلطان باشا الأطرش، والتي عمت مختلف المدن والمناطق السورية من شمالها إلى جنوبها.
في معركة ميسلون قال السوريون كلمتهم في وجه الآلة الحربية المتجبرة للمستعمر الفرنسي الذي حاول فرض شروطه على سورية عبر إنذار “غورو” في الـ 14 من تموز عام 1920، تلك المعركة شكلت نواةً حقيقيةً لمقاومة الاحتلال التي انطلقت في الساحل، حيث قارع الشيخ صالح العلي وثلة من الثوار قوات الانتداب الفرنسي لأكثر من أربع سنوات حتى شهر تموز 1922،وخاضوا خلالها معارك مشرفةً، وكبدوا الفرنسيين خسائر كبيرةً، منها معارك قرى سلمى وترتاح والشيخ بدر ووادي الورور وبيدر غنام التي شكلت عاملاً محفزاً للمجاهدين في الشمال بقيادة إبراهيم هنانو الذي خاض معارك مشرفةً ضدهم، وأهمها معركة تل عمار في أوائل شهر نيسان 1925.
وأعلن سلطان باشا الأطرش الثورة على المستعمر الفرنسي في السويداء في تموز عام 1925 عبر بيان جاء فيه: “أيها العرب السوريون تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي، لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد،إلى السلاح أيها الوطنيون إلى السلاح تحقيقاً لأماني البلاد، إلى السلاح تأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة."
وتشكلت في المنطقتين الشرقية والوسطى بزعامة محمد بك العياش وفوزي القاوقجي على التوالي مجموعات ثورية لضرب القوات الفرنسية في مدينة دير الزور وحماة، ووجه الثوار ضربات مؤلمةً للقوات الفرنسية في دير الزور، وتم القضاء على عدد من الضباط الفرنسيين في منطقة عين البو جمعة على طريق دير الزور- الرقة، فقامت الطائرات الفرنسية بقصف القرى والبيوت بمن فيها من الأطفال والنساء، وأحرقت المحاصيل الزراعية، وتم نفي جميع أفراد أسرة العياش من مدينة دير الزور، وحكم على محمود العياش مع اثني عشر ثائراً من رفاقه بالإعدام، وتم تنفيذ الحكم رمياً بالرصاص في أيلول عام 1925 في مدينة حلب، كما حكم على محمد العياش بالسجن لمدة 20 عاماً في جزيرة أرواد.
وفي حماة بدأ القاوقجي في تشرين الأول عام 1925 معاركه ضد الفرنسيين وأوقع مع مجموعة من الثوار خسائر كبيرةً بقوات الاحتلال الفرنسي، وكعادتهم وجه الفرنسيون جحيم طائراتهم على الأحياء الشعبية، لكن القاوقجي ورفاقه واصلوا مقارعتهم القوات الفرنسية وحققوا سلسلة انتصارات على القوات الفرنسية وحامياتها وثكناتها، وأنزلوا بها خسائر فادحةً.
ونفذ حسن الخراط ورفاقه الثوار في غوطة دمشق غارات ليليةً على القوات الفرنسية في أحياء الشاغور، وسوق ساروجة، والجزماتية، وأوقعوا فيها خسائر كبيرةً، واستطاعوا تدمير جميع الأبنية الفرنسية في هذه المناطق، واشتبكوا مباشرة مع دوريات المستعمر الفرنسي، ونزعوا سلاحها واحتجزوا عدداً من الجنود الفرنسيين قبل أن يسيطروا على مقر المندوب السامي الفرنسي موريس ساراي في قصر العظم بمدينة دمشق، وأقدم الفرنسيون إثر ذلك على استهداف أحياء مدينة دمشق بالمدفعية الثقيلة بشكل وحشي غير مسبوق.
شكل إنجاز الاستقلال وجلاء المستعمر الفرنسي عن سورية منطلقاً لدعم النضال الوطني وحركات التحرر من الاستعمار على امتداد الوطن العربي الكبير، ونبراساً لسلسلة من الثورات التي انطلقت تباعاً لنيل الاستقلال والتحرر من مختلف أشكال التبعية والظلم والاستغلال.