ليس غريباً أن يفاجئ عراب الدراما السورية المخرج باسل الخطيب جمهوره بأعمال درامية تحترم عقل المشاهد السوري خاصة والعربي عامة، في محاولة جديّة لإغناء الذاكرة بوجبات فنية أقل ما يقال عنها.. بأنها من الطراز الأدبي والفنيّ الراقي. فمن " نساء صغيرات إلى نزار قباني وصولاً إلى رسائل الحب والحرب" مروراً بالكثير من الأعمال التي أصبحت من النوادر في ظل تخبط الدراما السورية ووقوعها في فخ الربح التجاري من قبل مافيات الإنتاج الفني.
"حرائر" هو اسم العمل الدرامي الذي كشف به باسل الخطيب النقاب عن وجه دمشق، طارحاً صورة حقيقة لنمط الحياة الدمشقية في أوائل القرن الماضي، مُظهراً للعلن دمشق برجالها وحرائرها الحقيقين، مُسلطاً الضوء على الوجه الحقيقي للبيئة الشامية من بداية النهضة ومظاهر العلم والنضال الوطني، مُتسلحاً بأسماء مثل (نازك العابد، ماري عجمي)كان لها الأثر الواضح في رسم معالم دمشق خلال تلك الفترة من الزمن، مُحرراً دمشق من سراديب (كسر السفرة وثرثرة النساء وعنتريات القبضايات) التي مازال البعض مصراً في تقديمها على أنها مناخٌ دمشقي أوحد.
ولا يخفى على المتلقي قوة النص الدرامي ومتانة حبكة السيناريو والحوار النصي في العمل، فقد نجحت "عنود الخالد" مؤلفة مسلسل "حرائر"، في إيجاد نص درامي غني بالحوارات القوية هادئ اللهجة، ذو صبغة شعبية، بعيداً عن الصراخ (البوجئة والردح)، آخذة بعين الاعتبار خصوصية اللهجة والمفردات التي كانت حاضرة في تلك الفترة. وإن كان حضور الشخصيات المتنوعة لايقل أهمية عن النص، فقد عملت الكاتبة على إيجاد شخصيات واقعية وأخرى قريبة من الواقع تختلط فيما بينها لتنسج واقعاً درامياً مشوقاً، وغنياً بالتفاصيل والأحداث اليومية، جامعاً بين التوثيق والتشويق . فلا تقل شخصية صبحي أبو سعيد الافتراضية الملقب (بالحجي) أهمية عن الشخصيات الواقعية في المسلسل، الرجل المختبئ بغرائزه وأطماعه الشخصية خلف لقب وعباءة الدين ،وشخصية (بسّيمة) المرأة الأرملة التي ترفض نظرة المجتمع وقيوده وتحاول التمرد على العادات والتقاليد التي تحط من شأنها ومكانتها.
الموسيقى التصويرية للمسلسل، ابداع فني بحد ذاتها، فقد استطاع المايسترو سمير كويفاتي كعادته أن يتفوق على نفسه من خلال لوحات موسيقية وهمهمات كنائيسة، تخاطب العقل وتسحر القلب، تصاحب المشاهد الدرامية لتضيف عليها سحراً إضافياً ولتعطي العمل جمالية أخرى بالاضافة لجمالية الصورة التي استطاع الخطيب توظيفها ليأخذ المشاهد في رحلة عبر الزمن إلى قديم دمشق من خلال حاراتها ومنازلها وبساتينها، ولا يخفى على المشاهد استخدام الخطيب للألوان الدافئة (warmcolor) ليضفي لمسة من الحزن الدافئ، محاكياً المناخ العام السائد في فترة الحرب العالمية الأولى.
"حرائر دمشق" حطّمن "باب الحارة"، وخرجن عن سلطة الخيال المألوف إلى الواقع، رافضات بكل ما أوتين من أنوثة ،متسلحات بالمعرفة ، ليكتبن تاريخ سورية الحديث، جنباً الى جنب مع الرجل، في تأكيد على أن دور المرأة السورية لم يقتصر يوماً على (ابن عمي ، وتقبر قلبي)، بل كان عاملاً مهماً في نهضة المجتمع السوري وتحريره ونضاله.
أيهم محفوظ