كتب د. منذر علي احمد في صحيفة تشرين :
كما هي عادة القادة العظماء، لم يتخل السيد حسن نصر الله عن سيفه حتى في اللحظة الأخيرة، وامتزجت دماؤه بدماء إخوته في الوطن والانتماء، وكعادة ذكرى القادة العظماء، لا بد أن ينتصر الدم على السيف مهما ظن الباطل أنه على حق.
ولا شك في أن عدو الإنسانية الأول، «إسرائيل»، المنتشية باغتيالها جسد سماحة الأمين العام لحزب الله ولكن هيهات أن تغتال الفكر الذي أرساه وورثه للملايين حول العالم، فـ«إسرائيل» تعتقد أن الدرب لـ”نصرها” وهزيمتها للحزب والمقاومة باتت على بعد خطوة واحدة، ولكن هذا الحلم والأمل سيتبخر بمجرد أن ندخل في التفاصيل التحليلية للواقع الميداني وتشعباته.
خلال الأيام الأربعة الأخيرة من الهجمات الإسرائيلية على لبنان وحزب الله، ارتكبت «إسرائيل» العديد من الأخطاء الاستراتيجية التي قللت من فرص نجاحها في مواجهة حزب الله.
هذه الأخطاء، إلى جانب الوضع الداخلي الصعب والضغوط الدولية المتزايدة، تجعل فرص «إسرائيل» في تحقيق النجاح في هذه الحرب محدودةً للغاية. وللوقوف على تلك الأخطاء يمكن أن نقدم تحليلاً سريعاً للأخطاء التي ارتكبتها «إسرائيل» والتحديات التي ستواجهها وتمنع “نصرها” المزعوم:
1- انقسامات غير مسبوقة في المجتمع الإسرائيلي وضغط داخلي لإيجاد حلول سريعة.
لا شك في أن المتابع للداخل الإسرائيلي يمكن أن يلاحظ أن «إسرائيل» مأزومة وباتت حالياً تواجه أوضاعاً داخلية صعبة، بما في ذلك الانقسامات السياسية، والاحتجاجات المستمرة ضد الحكومة، والضغوط الاقتصادية الناتجة عن الحروب المتواصلة، رغم سياسة التعتيم والتكتم التي تمارسها حكومة الاحتلال على إعلامها وعلى مواطنيها، وأصبحت هذه الانقسامات الداخلية تشكل قوة ضغط تضعف قدرة القيادة الإسرائيلية على اتخاذ قرارات حاسمة وتنسيق الجهود العسكرية بشكل فعال، في ظل هذه الظروف، لا يمكن لـ«إسرائيل» أن تتجاهل ما يجري في الداخل فتجد نفسها مضطرة إلى التركيز على معالجة مشكلاتها الداخلية، ما يجعل حساباتها وقدرتها على شن حرب طويلة شاملة ضد حزب الله أقل فاعلية، خاصة في ظل وجود انقسامات داخلية لا تدعم قرار الحرب هذا.
٢– غياب تقييم حقيقي دقيق لقوة حزب الله.
أحد أبرز الأخطاء التي ارتكبتها «إسرائيل» هو التقليل من قوة حزب الله العسكرية والقدرة القتالية العالية التي يتمتع بها مقاتلوه الذين تمرسوا بشدة بمختلف أساليب القتال، فحزب الله لم يعد الحزب الذي عرفته «إسرائيل» في التسعينيات أو حتى في حرب تموز فهو ليس مجرد مجموعة مسلحة بإمكانات بسيطة، بل هو تنظيم ذو بنية عسكرية قوية، ويمتلك ترسانة كبيرة من الصواريخ والأسلحة المتقدمة التي يمكنها استهداف العمق الإسرائيلي بدقة وبكثافة.
حزب الله بات قادراً على تحويل المواجهة إلى حرب استنزاف طويلة، رغم “تفوق” «إسرائيل» العسكري، وخوض «إسرائيل» حرب استنزاف طويلة لا شك في أنه سيضعفها من جميع النواحي على المدى الطويل، وخاصة الاقتصادية والعسكرية.
٣- استخدام مفرط للقوة في مناطق
مدنية بخلاف ما تدعيه «إسرائيل» في قنواتها ووسائل حربها الإعلامية بقولها إنها تستخدم أسلحة ذكية دقيقة لا تصيب إلا مقاتلي حزب الله وتتجنب قتل أي مدني، وفي حال دمرت منازل المدنيين وقتلت الأطفال تقول إن هؤلاء كانوا درعاً وستاراً استخدمهم حزب الله لإخفاء أسلحته ومقاتليه، فإن الواقع يؤكد خلاف ذلك، إذ إن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على لبنان شملت قصف مناطق مدنية، ما أدى إلى سقوط ضحايا بين المدنيين وتدمير البنى التحتية الحيوية من مدارس ومستشفيات وغيرها.
إن هذا الاستخدام المفرط للقوة أدى إلى تصاعد الغضب الشعبي في لبنان وزيادة الدعم والولاء والوفاء لنهج حزب الله المقاوم، ليس في لبنان فقط ولكن لدى المجتمع الدولي، فالاستهداف المتعمد للمدنيين يزيد من تعقيد الأمور ويضع «إسرائيل» في موقف دفاعي أمام المجتمع الدولي، ما يقلل من شرعيتها في مواصلة الهجوم، وهذا ما لاحظناه من الحراك الدولي الواسع الرافض لهذه الممارسات ضد المدنيين، فمثل هذه الهجمات ضد المدنيين تعزز الانتقادات ضد «إسرائيل» وتعرضها لضغوط سياسية ودبلوماسية متزايدة.
٤- الفشل في القراءة الدقيقة للتوازنات الإقليمية وإدارتها بالشكل الصحيح
هناك حقيقة مطلقة لم تستطع «إسرائيل» أن تعيها بشكل جيد، فحزب الله لا يعمل بمعزل عن القوى الإقليمية الأخرى، بل يتمتع بدعم قوي من إيران وسورية وبعض الفصائل الفلسطينية واليمنية. تلك القوى لن تسمح بوصول الأمور إلى ما تبتغي «إسرائيل» فعله في حزب الله، فأي تصعيد عسكري ضد حزب الله قد يؤدي إلى تدخل قوى إقليمية أخرى، ما يزيد من تعقيد المشهد ويضع «إسرائيل» في مواجهة متعددة الجبهات.
في ظل هذه الظروف، قد تجد «إسرائيل» نفسها في موقف دفاعي مع تزايد الضغط العسكري عليها من عدة اتجاهات، وبهذا فقد أخطأت «إسرائيل» في تقدير التوازنات الإقليمية والدولية قبل شن هجومها على حزب الله.
5- الحجم المتزايد للضغوط الدولية على «إسرائيل».
الاستجابة الدولية للهجمات الإسرائيلية كانت سلبية بشكل كبير، حيث أدانت العديد من الدول الهجمات على المدنيين اللبنانيين ودعت إلى ضبط النفس. «إسرائيل» تجد نفسها تحت ضغوط متزايدة من الأمم المتحدة والدول الأوروبية وبعض حلفائها التقليديين، مثل الولايات المتحدة، وإن كانت تلك الضغوط لم تصل إلى الحد والتهديد الذي قد يدفع «إسرائيل» إلى الاستجابة والقيام بالحد من عملياتها العسكرية، هذه الضغوط رغم محدودية تأثيرها حتى الآن إلا أنها تقلل من حرية التحرك الإسرائيلي وتجعل من الصعب عليها مواصلة الحرب دون تكبد خسائر دبلوماسية وسياسية مع حلفائها وأنصارها في المجامع الدولية.
6- الاعتماد بشكل كبير على قوة الردع العسكري.
فائض القوة والقوة المفرطة والقبة الحديدية والقنابل الذكية وأنظمة الإنذار المبكر وغيرها الكثير من التجهيزات التي تعتمد عليها بشكل مفرط، بهدف ترسيخ الرعب لدى أعدائها ومنعهم من مجرد التفكير في مهاجمتها، الاعتماد على الردع العسكري دون النظر إلى الحلول الدبلوماسية والسياسية هو نهج تبنته «إسرائيل» منذ نشأتها، ولكنه أثبت فشله على مدار سنوات الصراع الطويل مع محيطها، قد يكون هذا النهج فعالاً على المدى القصير، لكنه لا يقدم حلاً مستداماً للصراع مع حزب الله، الذي يجيد استخدام تكتيكات الحروب غير التقليدية، مثل حرب “العصابات” والكمائن، وهذا ما يجعل الردع العسكري غير فعال بالكامل، الرد العسكري المستمر والطويل الأمد قد يؤدي إلى استنزاف الجيش الإسرائيلي ويزيد من معاناة المجتمع الإسرائيلي الذي يعيش تحت تهديد الصواريخ والهجمات المضادة من حزب الله في المقابل.
7- عدم القدرة على تحقيق انتصار سريع
فأحلام تحقيق الانتصارات بالضربة القاضية والجولة الواحدة قد ولت، فـ«إسرائيل» عبر تاريخ صراعها كانت تسعى دائماً إلى خوض الحروب الخاطفة والسريعة وتسعى دائماً إلى تحقيق انتصارات سريعة في حروبها، لكن المواجهة مع حزب الله لا تتبع هذا النمط. حزب الله يتمتع بقدرة على الصمود لفتراتٍ طويلة ويعشق ويتقن فن الحروب الطويلة ويستفيد من معرفة تضاريس أرضه ودعم السكان المحليين، أما «إسرائيل» فتجد نفسها في مواجهة من يمكنه المناورة والتخفي، ما يجعل من الصعب تحقيق نصر حاسم وسريع.
ورغم كل ما ذكر آنفاً، لم يغير الكيان الصهيوني سياسة الاغتيالات التي يتبعها منذ وطئت قدماه عدواناً في هذه المنطقة، لكن من يقرأ التاريخ يعرف تماماً أن في هذه المنطقة أيضاً قائداً ينعى قائداً، ويداً تسلم راية ليد أخرى، وإنما النصر صبر ساعة.