شارك
|

قلعة جعبر...جزيرة أثرية في قلب التاريخ

تاريخ النشر : 2024-02-26

على الضفة اليسرى لنهر الفرات في محافظة الرقة، وفوق هضبة صخرية كلسية هشة من الحوار والدولوميت مشرفة على بحيرة الأسد، تتربع قلعة أثرية تاريخية في موقع هام واستراتيجي. ألا وهي ...قلعة جعبر.

 

 

إحدى الآثار الهامة جداً في سورية حيث تحظى باهتمام السواح والزائرين وتكمل جزءا أساسياً من خارطة الآثار المنتشرة.

 

 

تبعد قلعة جعبر عن سد الفرات حوالي 15 كم، وعن مدينة الرقة ما يقارب 50 كم وترتفع الهضبة الواقعة عليها حوالي 347 م عن سطح البحر، حيث تشكل جزيرة أثرية محاطة بالمياه من كافة الجهات مشرفة على بحيرة الأسد التي تشكلت خلف سد الفرات في عام 1975م.

 

 


أصل تسمية قلعة جعبر


تقول الروايات إن أصل التسمية يعود إلى جعبر بن سابق القشيري من قبيلة بن قشير العربية - ومعنى كلمة جعبر: (القصب الغليظ القصير الجذر الذي لم يحكم تحته)-  حيث استولى عليها في العهد السلجوقي ويقال أنه كان ضريرا ويقطع الطريق ويخيف المارين من المعابر المؤدية لها هو وولديه وبعد غاراته المتواصلة يأوي إليها محتميا بها .

 

 

وقد جاء في كتاب وفيات الأعيان أن هذه القلعة كانت تعرف قبل نسبتها إلى جعبر القشيري بالدوسرية، نسبة إلى دوسر غلام النعمان بن المنذر ملك الحيرة.

 

 

مما تقدم يُلاحظ أن ثمّة اسمين اثنين لهذه القلعة يقعان في فترتين متباعدتين، أولهما الدوسرية؛ ويرجع لما قبل الإسلام، وثانيهما جعبر؛ ويرقى للقرن 5هـ/11م، ولم يرد بين هذين التاريخين ذكر كبير لهذه القلعة سوى شذرات قليلة بين صفحات التاريخ.

 

 

في تاريخ قلعة جعبر


بقيت القلعة تحت سيطرة جعبر حتى حاصرها السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي سنة 479هـ/1086م ،حيث نصب المجانيق لها واستولى عليها وقتل جعبر وولديه ووهبها لسالم بن مالك بدران العقيلي تعويضا عن قلعة دمشق التي تسلمها منه.

 

 

ثم نزلها عماد الدين زنكي بهجوم مباغت بنية الاستيلاء عليها وقد ضيق الحصار عليها وكادت تستسلم بعد قتال مرير ولكنها صمدت أمام هذا الهجوم. وربما يعود ذلك بسبب موت عماد الدين زنكي مقتولا وهو نائم على يد أحد خدمه المدعو برتقش انتقاما منه لتأنيبه إياه مما أدى إلى فك الحصار عن القلعة.

 


تعاقب على قلعة جعبر أفراد من سلالة العـقـيلين آخرهم شهاب الدين بن عماد الدين بن مالك بن علي وقد تسلمها في عام 564 هـ ــ 1186 م السلطان نور الدين بن عماد زنكي.

 


كما تعاقب عليها السلاجقة والأيوبيون والصليبيون ( أمراء الرها ــ أورفة ) والمغول والمماليك والعثمانيون.

 


يقال إن سليمان شاه (جد عثمان الأول الذي أسس الإمبراطورية العثمانية) غرق في نهر الفرات بالقرب من قلعة جعبر، وتم دفنه بالقرب من القلعة ومع ذلك، فمن المحتمل أن هذه القصة نتجت عن الخلط بين سليمان شاه وسليمان بن كوتالمش مؤسس سلطنة السلجوق في ريم.
ولكن ليس من المؤكد ما إذا كان القبر الفعلي، المعروف باسم مزار تركي، يتعلق بأي من هذين الحكام.

 

 

قام الخليفة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بإعادة بناء المقبرة. وبموجب المادة 9 من معاهدة أنقرة لعام 1921م، تم قبول المنطقة كأرض تركية، وتم السماح للجنود الأتراك بحراسة القبر بعد قيام سورية كقوة فرنسية واستقلالها في نهاية المطاف.

 

 

في عام 1973م، واستجابة لارتفاع منسوب المياه في بحيرة الأسد التي تم إنشاؤها حديثا، تم نقل قبر سليمان شاه المشهور والمقبرة المرتبطة به إلى موقع جديد شمال قلعة جعبر وأصبحت القلعة نفسها أرضا سورية.

 

 


البناء المعماري لقلعة جعبر


تتميز قلعة جعبر بموقعها الحصين المنيع وقد عاشت معارك ضارية عبر التاريخ بين الروم والبيزنطيين والفرنجة والمغول وبين من تعاقب عليها من العرب والمسلمين، ونتيجة لذلك أصيبت بالتنكيل والخراب بأهلها ومبانيها إلا أن آثارها نالت عناية عمرانية زمن الأيوبيين والمماليك. وجددها الملك الناصر محمد بن قلاوون بإعادة بنائها بعد أن دمرها هولاكو عام 735هـ ــ 1334م في سلطنته الممتدة بين عامي 709 هـ ــ 741 هـ ( 1309 ـ 1340 م ) ثم رممها الأمير سيف الدين تنكز نائب دمشق بين عامي 742 ـ 761 هــ ( 1340 ــ 1359 م ).

 

 

قلعة جعبر مستطيلة الشكل تقريباً وتبلغ أبعادها 320م × 170م ويحيط بها سوران دفاعيان ضخمان أحدهما داخلي والآخر خارجي، ويفصل بينهما بضعة أمتار تشكل ممرا بين السورين. وفيهما أكثر من 35 برجا دفاعيا لها أشكال هندسية فبعضها مربع وآخر نصف مسدس ونصف مثمن وهناك نصف الدائري. 

 


والجدير بالذكر أن الأبراج التي تعتبر من مهام الدفاع الرئيسية في القلاع تبدو كالقلاع الصغيرة لها حاميتها ومتطلباتها الدفاعية فضلاً عن تنوع أشكالها فمنها من هو بطابق واحد ومنها من هو بطابقين وبعضها الأخر أقيم من ثلاث طبقات وبإحكام هندسي رائع وغاية في الدقة والمناعة. توازعتها مرامي السهام على أطرافها التي كانت وسائل الدفاع الرئيسية في تلك العصور.

 

 

يتميز مدخل قلعة جعبر بأنه عسكري في تصميمه لصد هجوم المغيرين عند مداهمته واجتيازه. وأما عن بوابة القلعة فتقع في الجهة الغربية ومبنية بالآجر مثل باقي القلعة، وتفضي هذه البوابة إلى ممر صغير يؤدي إلى باحة تنتهي إلى برج ضخم يبعد نحو 100م عن البوابة يسمى حالياً برج عليا.

 

 


وإلى اليسار قليلا يوجد نفق مدخله مبني بالحجارة وهو محفور بالصخر يؤدي إلى سطح القلعة وكان هذا النفق البالغ طوله نحو 50 متراً مكسواً بالآجر وقد زالت معظم هذه الكسوة الآن إلا بقايا قليلة.

 

 

في وسط القلعة مسجد جامع له مئذنة شامخة في أعلى نقطة وتطل على كل ما يحيط بها كما أنشئت مبانٍ في الزاوية الجنوبية الغربية غاية في الأهمية لعلها كانت بيوت أصحاب القلعة وأمرائها.

 


وفي أقصى الجنوب هناك أحد الأبراج رمم بشكل جيد، وقد اتخذ متحفاً يضم اللقى الأثرية التي كشفت عنها الحفريات في منطقة السد. أما القبو الكائن في الباحة المتقدمة قبل المدخل الثاني فقد أقيم فيه المدفن الروماني.

 


ويتألف المدفن من حجرين جنائزيين وقد زينت واجهات المدفن فيها بالسواكب المزهرة المليئة بالزخرفة والتماثيل والتي يبلغ عددها عشرة تماثيل صغيرة.

 

 


جرت أعمال تنقيب أثرية في منطقة الجامع وما حولها، وفي المباني الجنوبية الغربية، كشفت عن أقسام الجامع وعن المباني الواقعة شماله، وتبين أن أحدها مكون من باحة في الوسط، يتوسطها صهريج ماء محفور في الصخر، وحولها غرف كثيرة ومبان وبئر ماء وأوان فخارية مزخرفة.

 

 

كما عثر على عدد من المدافن المنحوتة في الصخر في السفح الغربي لقلعة جعبر، معظمها يرجع إلى العصر البيزنطي، أهمها مدفن واسع يتألف من فناء مستطيل (16.95× 8.85 م) نحت به في الشمال والجنوب والشرق تسعة إيوانات يغطي كلاً منها قبو أسطواني الشكل، حيث توجد شارات صليب منحوتة في واجهة هذه الإيوانات، أو في داخلها.

 


وأخيرا إن قلعة جعبر اليوم جزيرة أثرية هامة وسط البحيرة ومقصد مستمر لجميع السياح بسبب موقعها الرائع المتميز، وتفاصيلها التي تحكي لنا تاريخها العريق وكل من تعاقب عليها في مختلف العصور. فهي بتاريخها ونشأتها أكبر قلعة يضمها حوض الفرات ومن أهم القلاع ذات الطابع العسكري ونظراً لقيمتها التاريخية والأثرية قامت مديرية الآثار السورية بكشف أسوارها، كما قامت بأعمال ترميم كثيرة في هذه الأسوار وبتقوية كثير من أبراجها، وبكسوة السفوح الغربية للهضبة التي تقوم عليها القلعة بقميص إسمنتي؛ حماية لها من تأثير الأمواج التي تحدثها مياه البحيرة في هذه الجهة.

 

رزان محمد 

 

 

 


عدد القراءات: 2640