شارك
|

الحرف اليدوية السورية ... عالم من الروعة الشرقية

تاريخ النشر : 2024-03-10

لا يوجد مشهد أكثر سحراً من رؤية الحرفيين وهم يعملون في الشوارع القديمة لمدننا السورية. إن التنزه في أسواق دمشق أو حلب، ومشاهدة الحرفيين وهم ينتجون أعمالهم الفنية المبهجة، هو بمثابة بطاقة بريدية مصورة من العصور الغابرة. فمنذ حضارات إيبلا وماري وأوغاريت، ورث الحرفيون في هاتين المدينتين الأقدم في العالم مهارة أجدادهم. جيلا بعد جيل على مر القرون، فجعلوا هذا البلد مشهور بمنتجاته المصنوعة يدوياً.

 

 

وفي صدر الإسلام، وبعد أن أصبحت دمشق عاصمة إمبراطورية عربية واسعة تمتد من حدود الصين إلى قلب فرنسا، أخذ الحرفيون السوريون صناعتهم إلى جميع أنحاء بلاد المسلمين. فأصبحت سيوف طليطلة بإسبانيا مشهورة مثل سيوف دمشق الشهيرة. ولا تزال منتجات الفسيفساء السورية، التي تم العثور على نسبها في آثار إيبلا التي يبلغ عمرها 4000 عام، تُصنع يدويا في غرناطة.

 

 

وفي القرون اللاحقة، وبعد احتلال دمشق عدة مرات، حمل المغول معهم إلى آسيا الوسطى العديد من أفضل الحرفيين في سورية.

 

 


إن مباني العصور الوسطى الجميلة التي نراها اليوم في بخارى وسمرقند قد تم تزيينها من قبل حرفيين دمشقيين أعادهم تيمورلنك بعد أن دمر العاصمة السورية.

 

 

واليوم، في حلب ودمشق، يواصل الحرفيون السوريون تقاليد هؤلاء الأجداد اللامعين. وعلى الرغم من الصناعة الحديثة التي دمرت الكثير من الحرف اليدوية في العالم، إلا أن الحرفيين السوريين، إلى حد كبير، تمكنوا من إيقاف هذه الآلة. لقد منحتهم خبراتهم، التي تطورت عبر العصور، ميزة الحفاظ على تراث تقليدي طويل. فالمنتجات التي ينتجونها تحظى بشعبية كبيرة اليوم كما كانت عندما حمل الفينيقيون في أوغاريت بضائعهم المصنوعة يدويا إلى أطراف العالم المعروف آنذاك.

 

 

إن أسواق حلب القديمة المغطاة، وسوق الحميدية بدمشق، والشارع المستقيم وسوق مدحت باشا وسوق البزورية وخان أسعد باشا ومتاهة الأزقة المتصلة هي الأسواق التي تجد فيها هذه المنتجات الجليلة. بالإضافة إلى المحلات والمعارض الفنية. ويعمل الحرفيون مثل آبائهم وأجدادهم من قبلهم، في ترصيع الطاولات وصناديق المجوهرات. ويقوم آخرون بطحن الفضة وتحويلها إلى أواني نحاسية أو صناعة أثاث فسيفساء مذهل، وكذلك يقوم الرجال والنساء بنسج الأقمشة المطرزة والسجاد والمفروشات يدويا بشكل ملفت للنظر.

 

 

وفي المنتصف، يقوم تجار الجلود بتصميم شباشب مزهرة وهم يشاهدون الشباب يمرون ويبيعون منتجاتهم المصنوعة يدويا من السيراميك أو الفخار أو الحجر أو القش المزخرف، بجميع الأنماط والأشكال، بالإضافة إلى الأصناف المطرزة.

 


ويمكننا القول إن متاجر الحرفيين تمثل عالما خلابا يلفت الأنظار وهو بمثابة دعوة لا تقاوم للمارة للدخول. حيث يقف السائحون منبهرين وهم يشاهدون هؤلاء الحرفيين المهرة، الذين يبدو أنهم خرجوا من "الليالي العربية"، وهم يعملون.

 

 


أنواع الحرف اليدوية السورية

 

 

1-المنسوجات المنسوجة يدوياً:
أتقن النساجون السوريون فن صناعة الأقمشة المذهلة من خلال التقنيات التقليدية. وغالبا ما تتميز هذه المنسوجات بأنماط معقدة وألوان نابضة بالحياة واستخدام مواد فاخرة مثل الحرير والقطن.
وأشهر هذه المنسوجات المصنوعة يدويا البروكار الدمشقي وهو قماش حريري منسوج بخيوط فضية أو ذهبية بتصميمات متقنة، وقد ظل مطلوبا بشدة منذ مئات السنين.
ومن الطريف أن التجار الدمشقيون يعشقون إخبار زبائنهم بأن والدة ملكة بريطانيا الحالية إليزابيث، الراحلة، عندما توجت، طلبت ثوباً مصنوعاً من البروكار (الديباج) المصنوع يدوياً منذ قرون.

ويوجد نوع آخر مشهور جدا في عالم النسيج يدعى الدمشقي وهو قماش يوجد اسمه في معظم اللغات الأوروبية. وفي اللغة الإنجليزية وحدها هناك أكثر من 30 كلمة مشتقة من اسمه وهو التسمية العربية لدمشق (الداماسكو)، إن أنماط هذا النسيج المعقدة والزهرية والهندسية الجذابة جعلته مطلوبا بشدة منذ العصور الوسطى في أجزاء كثيرة من العالم.

وإلى جانب الديباج والدمشقي، يوجد الأغباني المصنوع يدويا، وهو نسيج قطني مطرز بالحرير، بالإضافة إلى أنواع أخرى من الأقمشة الموجودة في الأسواق. كالقفاطين الجذابة والفساتين الغربية الأنيقة المصنوعة من هذه الأقمشة التقليدية.
في شوارع دمشق القديمة وفي أسواق حلب التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى يتم عرض هذه الأقمشة بطريقة جذابة، حيث تصنع القفاطين النسائية ذات اللون القرمزي العميق والأزرق والأصفر، والتي غالبا ما تكون مطرزة يدويا ومرصعة بأحجار الراين، فتكون مشهدا رائعا من الألوان.

ولا يقل عن ذلك روعة السجاد السوري المصنوع يدويا، خاصة تلك السجادات المصنوعة في حلب، والتي تتميز بأنماطها الهندسية الموضوعة عادة على خلفية حمراء وهي إبداعات فنية ملفتة للنظر فلا تحظى بشهرة في سورية فحسب، بل من قبل العديد من الزوار. فكل لون في هذه السجادات، التي تنسجها في الغالب شابات في ورش بسيطة، له رموزه وقصته في كثير من الأحيان، حيث أن صور الطبيعة والأماكن المقدسة والأبطال الشعبيين والأقوال الحكيمة تمنح هذه السجادات جاذبية لا تقاوم.

 


2-الفسيفساء:
يعتبر فن الفسيفساء الدمشقي أو الجوز الخشبي وهو فن ترصيع الخشب بالصدف، من المهن القديمة التي لا تزال مدينة دمشق في سوريا تشتهر بها.
يعود تاريخ هذه الحرفة اليدوية إلى أكثر من 300 عام. وتعكس صناعة الفسيفساء إدخال عرق اللؤلؤ أو إدخال قطع صغيرة من الزجاج الملون أو الحجر في جزيئات أنواع مختلفة من الخشب مثل الجوز والورد والزان. وتعتمد هذه الحرفة بشكل أساسي على خيال الحرفي في ترصيع الخشب وتحويله إلى أشكال فنية من رسومات وأشكال هندسية مثل المثمن والمربع والسداسي والمثلث، حيث ينتشر الخشب في أشكال صغيرة تشكل في تركيبها مجموعة من الأنواع المختلفة على شكل شرائح تتجمع لتشكل الشكل المطلوب. وغالبا ما تصور هذه الفسيفساء مشاهد من الطبيعة أو أنماط هندسية أو شخصيات تاريخية.
والجدير بالذكر أن الحرفيين السوريين قد تفوقوا في فن صناعة الفسيفساء وتشتهر دمشق بشكل خاص بأعمال الفسيفساء، حيث يعد الجامع الأموي بمثابة شهادة رائعة على هذه الحرفة القديمة.

 

 

3-الفن العجمي الدمشقي:
حرفة فنية يدوية قديمة ذات أصول دمشقية، توارثها الفنانون عبر العصور وأبدعوا فيها. سُميت بهذا الاسم بسبب مزيج الزخارف التي امتزجت في الفن الفارسي والتركي والمغربي والعربي، وما جاء من العصور اليونانية القديمة واليونانية.
إن الفن العجمي الدمشقي هو فن تراثي كان يستخدم في تزيين قاعات الاستقبال الرسمية وقاعات البيوت الدمشقية القديمة. وتحتفظ ألوان اللوحة العجمية بتألقها لسنوات عديدة. وتبلورت هذه المهنة في عهد الدولة الأموية وسميت بالرسم النباتي لأن ألوانها كانت تستخرج من النباتات.

 

 


4-الأعمال الخشبية:
تتجسد براعة عمال الخشب السوريين في الأثاث المنحوت بشكل معقد والعناصر الزخرفية والعناصر المعمارية. وتشتهر دمشق، على وجه الخصوص، بأثاثها الدمشقي، الذي يتميز بأعمال ترصيع دقيقة باستخدام مواد مثل عرق اللؤلؤ، مما يخلق تصميمات مذهلة ومزخرفة. ونشاهد أيضا داخل الأسواق الكبيرة عرضا مذهلا ومغريا لهذه الفنون والحرف حيث توجد ألواح الطاولات والشطرنج المتناثرة فنيا وصناديق الفسيفساء الخشبية والطاولات وغيرها من إبداعات الفنون اليدوية كالمطعمة بالعظم والعاج والليمون وخشب الورد واللؤلؤ.

 

 

5-الأعمال المعدنية:
يتمتع الحرفيون السوريون بتقليد طويل الأمد في إنتاج العناصر النحاسية الرائعة. ومن خلال تقنيات مثل الطرق والنقش والتخريم، حيث يصنعون السيوف والصواني الجميلة وأواني القهوة والفوانيس والعديد من القطع المعقدة الأخرى كالأواني النحاسية الجذابة واللوحات الجدارية والصواني المطعمة بأسلاك الذهب والفضة وتشتهر مدينة حمص بشكل خاص بتراثها في مجال الأعمال المعدنية.

 

 

6-السيراميك والأواني الزجاجية والمجوهرات والسلع الجلدية:
تشتهر سورية بمجموعة متنوعة من الحرف التقليدية، بما في ذلك السيراميك والأواني الزجاجية والمجوهرات والسلع الجلدية. وكذلك المصنوعات الزجاجية المصنوعة يدويا والتي تشبه المجوهرات البراقة وتعطي هالة من الثراء للمنتجات اليدوية الأخرى.

 

 

ومع ذلك، بالنسبة للسكان المحليين والعديد من السياح، فإن مثال الحرف اليدوية السورية هو أكشاك الذهب والفضة معلم الشرق الأوسط منذ ضباب التاريخ. إنه معرض للثروة، فهو دائما مليء بالرجال والنساء الذين يتفحصون المجوهرات المصنوعة يدويا. فزخارفهم المعدنية الثمينة ذات الذوق الرفيع تحظى بتقدير متواضع، ومع القليل من المساومة، يمكن العثور على عمليات شراء رائعة.

 

 

تتمتع كل منطقة داخل سورية بأسلوبها وتقنياتها الفريدة لإنتاج هذه العناصر، مما يعرض الهوية الثقافية المميزة للمنطقة.

 

 

لا تمثل هذه الحرف التقليدية المهارات والإبداعات الاستثنائية للفنانين السوريين فحسب، بل تعمل أيضا كحلقة وصل بتاريخ البلاد الغني وهويتها الثقافية.

 

 

وفي نهاية المطاف لا يزال التجار السوريون يمارسون تجارتهم في الحرف اليدوية. وبالرغم من أن الصناعة الحديثة لها تأثيرها، حيث تدفع المنتجات المصنوعة يدويا تدريجياً من الأسواق. وبرغم هذا التحدي الهائل، لم يتم التغلب على الحرف اليدوية التقليدية في بلادنا. وذلك بسبب التراث المتأصل الذي يميز الحرفي الصانع الحاذق الذي جعل من الإنتاج جزءا منه مما دفعه إلى التصميم على إنتاج شيء جميل ومبتكر مملوء بالذوق والأناقة والترف والأصالة والإتقان. مما جعل للصناعات التقليدية ذات البعد الثقافي والحضاري مكانه خاصة لدى المستهلك الذي يرغب في العودة إلى كل ما هو أصيل وحضاري وتاريخي.

 


فأكثر ما يميز سورية ويشهرها عالميا هو تلك الحياة الجديدة التي تبث للعالم أجمع من خلال هذه الأيادي الطيبة التي تصنع وتزين وتعطي من روحها لكل شيء تصنعه.

 

رزان محمد

 

  

  

 

 


عدد القراءات: 623

اخر الأخبار