شارك
|

دير مار يعقوب المقطع...حكاية صمود وإيمان وتاريخ لا يموت

تاريخ النشر : 2024-05-12

على أنقاض حصن روماني في أرض جرداء تتبع لمحافظة ريف دمشق، وفي الشمال الغربي لبلدة قارة وعلى بعد 92كم عن دمشق يوجد دير أثري قديم يعود إلى القرن السادس الميلادي في عهد الإمبراطورية الرومانية... إنه دير مار يعقوب المقطع.

 

 

كان دير مار يعقوب المقطع مركزا أسقفيا ومكانا لكتابة المخطوطات ومخصصا لراهبات الوحدة الانطاكية. وفيه أيضا مدرسة لتنشئة الرهبان ويتبع مطرانية حمص وحماة ويبرود للروم الملكيين الكاثوليك.

 

 

وقد انطلق من هذا الدير الكثير من الرهبان ليؤسسوا أديرتهم في المنطقة مثل الراهب موسى الحبشي الذي أسس ديره المعروف شرقي النبك.

 


كان الدير في حالة خراب شبه كامل حتى منتصف التسعينيات حين بدأ مشروع الترميم تحت قيادة الراهبات اللبنانيات والسوريات الروم الكاثوليك. واليوم، أعيد بناؤه بالكامل تقريبا.

 

 

 

قصة الراهب يعقوب المقطع


في القرن الخامس الميلادي وفي مدينة لابات ناحية سوز في بلاد فارس عاش يعقوب المقطع الذي كان ينتمي لأسرة مسيحية غنية وقد كان يتبع الوثنية بداية متأثرا بصديقه الشاه يزدجرد الأول (سكراد بن صافور) وبعدها أقنعته أمه وزوجته باعتناق المسيحية.

 

 

كان يعقوب منخرطا في خدمة الملك وقد أحب حياة الترف والمتعة في بلاط الساسانيين. وقد كان مقربا من الملك مما جعله يتآلف مع الديانة الرسمية للفرس آنذاك وهي الزرادشتية منحرفا عن إيمانه المسيحي.

 


وعندما سمعت أمه وزوجته بهذا الخبرالصادم حزنتا كثيرا ووجهتا إليه رسالة مؤثرة معبرة عن الحزن الشديد أمام تخاذله وجحوده، وتتوسلان إليه العودة إلى رشده وديانته الأصلية. وقد كان لهذه الرسالة أثر صاعق على يعقوب فعاد مجاهراً بإيمانه المسيحي، لكن الملك يزدجرد عرف بأمره ولم ينجح في استمالته، فكان الأمر بقتله وتقطيعه إلى 29 قطعة، ليستشهد في 27 تشرين الأول من سنة 420 م، وحمل لقب المقطع منذ تنفيذ الحكم فيه.

 



وقد جرى ذلك في بابل فهرع المؤمنون للحصول على جثمانه ولملمة أطرافه لتوارى الثرى، فتوزعت أطرافه في الكثير من أنحاء العالم، ويقال إن رأسه دفن في روما وعظامه في البرتغال، وفي قارة دفن أحد أصابعه.

 

 

وتكريماً لذكرى يعقوب المقطع، بنيت باسمه عدة أديرة، ضمت قطعاً من أعضاء جسده، منها دير مار يعقوب المقطع في بلدة قارة السورية.

 

 


تاريخ دير مار يعقوب المقطع

 

عاش دير مار يعقوب المقطع عصره الذهبي منذ تأسيسه كأهم دير في منطقة القلمون وقد أمته الحجاج من كل مكان حتى غزاه الظاهر بيبرس عام 1266، فقتل الرهبان ونهب الدير.

 

 

وفي القرن الخامس عشر الميلادي هاجمه التركمان ثم تعرض لهجمات صغيرة متتالية حتى دخله الجنود العثمانيون عام 1600، وذبحوا 120 من رهبانه ونهبوا ما فيه.

 

 

وقد تعرض بعدها للعديد من الأعمال العنيفة حتى منتصف القرن العشرين عندما أغلق الدير تماماً.

 

 

ترميم دير مار يعقوب المقطع وما آل إليه بعد ذلك


عاشت الحياة الرهبانية في هذا الدير حياة متقطعة وذلك بسبب النكبات العديدة التي تعرض لها وقد شهد عدة محاولات للترميم لكنها باءت بالفشل فمنذ 1730 وحتى 1850 بقي الدير مهجوراً بشكل شبه تام، وفي عام 1930 توفي آخر كاهن مقيم فيه.

 


وقد ظل الدير فاقدا للحياة مهجورا حتى أتت الأم أغنس مريم الصليب في تسعينات القرن الماضي ونجحت في إعادة الحياة والروح لهذا المكان، بعد أن مضت بروتوكولاً خاصاً في شباط عام 1994 مع المطرانية المسؤولة عن المكان يقضي بتقديم المطرانية للمكان مع كامل الأملاك الموقوفة لصالحه، على أن ترممه الأم أغنس مريم الصليب وتبقى مشرفةً عليه.

 

 

تقول الأم أغنس: «كنت في طريقي من دمشق إلى حمص، عندما مررنا بهذا المكان، وكان في حالةٍ يرثى لها، لكن شيئاً ما تحرك في داخلي نحوه لذا قررت العودة لأرى ما الذي يمكننا أن نفعله»

 

 

وقد انتهت أعمال الترميم عام 2000 بمساعدة مجموعة من المتطوعين من أهل القرية، الذين قرروا المساعدة في إعادة الحياة لهذا الدير ليكون مركزاً ليس فقط لوحدة الكنيسة إنما لوحدة الأديان، تماماً كما كانت دعوة القديس الذي سمي الدير باسمه.

 

 

أصبح الدير مقصدا لكل من يطلب الهدوء والعزلة والسكينة الروحية، وقد ضجت الحياة في هذا الدير الذي كان مهجورا فهو مفتوح لكل الناس ومن مختلف المذاهب والطوائف والأديان، ويوجد قسم للإقامة فيه.

 


يتمتع هذا الدير بالاكتفاء الذاتي وذلك بسبب موقعه المميز وطبيعته الجميلة على حدود البادية السورية فيحتوي على مزرعة صغيرة إضافة إلى وقف ممتد على مساحات واسعة في محيطه مزروع بالأشجار المثمرة، وفيه نبع للماء، ما يجعل الزائر أو المقيم في غنى عن الخروج منه نظراً لتوافر حاجاته فيه.

 

 


البناء المعماري لدير مار يعقوب المقطع

 

استخدم اللبن المجفف والحجارة في بناء هذا الدير، فبنيت واجهته الرئيسية من الحجر المنحوت. وقد تنوعت فنون العمارة داخل الدير بحسب الأزمنة والحضارات التي مرت عليه.

 


يتـألف الدير من بوابةٍ مرتفعة معقودة بقوس مدببة، تعلوها شرفتان ترمزان إلى مصبات الزيت. وفيه أيضا برج ضخم مؤلف من أربعة طوابق قواعده من العهدين الروماني والبيزنطي وكان يستخدم لمراقبة القوافل التجارية بين بعلبك ودمشق، كما يحوي كنيسة قديمة وإلى جانبها قبو الشهداء وفيه توجد رفاة القديس يعقوب، وللقبو باب صغير مبني بحسب التقليد السرياني، وبمحاذاة القبو تقع دار مار يعقوب وسميت كذلك لأنها متاخمة للكنيسة وتلف الدار أقواس أيوبية.

 


كما يوجد داخل الدير أيضا طاحونة ماء تقع إلى جانبها الكنيسة الكبرى والمعروفة بأنها من أهم معالم الدير وهي بوضعها الحالي ترقى إلى القرن العاشر الميلادي، وتقع في وسط الواجهة الشرقية من الجناح الشمالي للدير وتميل 35 درجة باتجاه الشمال، وهو الغريب على كنيسة بيزنطية ما يجعل فرضية وجود معبد قمري سابق للاستعمال المسيحي واردة جداً.

 

 

ويتخلل الجدار الشرقي خمسة إطارات بخمسة نوافذ أحدها مزخرفة والثانية تقع في وسط الجدار، أما المدخل فيتصل بممر طولاني يشطر الدير إلى قسمين: الأيمن يكوّن مدخل الباحة، والأيسر يحتوي على أربعة غرف يتم الصعود لمدخله بواسطة درج يؤدي إلى بهو فيه غرفتان ويؤدي أيضا إلى سطح البرج العلوي.

 

 

كما يحوي الدير مغارة كبيرة، وإلى اليسار منها مغارة أخرى صغيرة، والظاهر أنهما استخدمتا لتخزين المؤونة، وفي آخر المغارة الكبرى يوجد نفق يغور 13 متراً في الأرض يقال إنه يصل الدير ببلدة قارة عبر أنفاق ودهاليز.

 

 

ومع انتهاء أعمال ترميم الدير شهد توسعاً ليحوي قاعة للمؤتمرات ونزلاً جديداً لاستقبال الضيوف والراغبين في قضاء وقت من العزلة الروحية في هذا المكان، بعيداً عن صخب المدن والفوضى.

 


يضم الدير مجموعة نادرة من اللوحات الجدارية (الفريسك) بطبقتَين متراكمتَين واحدة من القرن الحادي عشر الميلادي وأخرى من القرن الثالث عشر الميلادي مع شروحات عليها باللغتَين السريانية واللاتينية.

 


وأخيرا تحتفل هذا الكنيسة بعيد شفيعها مار يعقوب المُقطَّع في 27 تشرين الثاني من كل عام.

 

رزان محمد 

 

  

 

 

 


عدد القراءات: 255

اخر الأخبار